(مقال) بقلم * خالد حدادة -- تؤكد أحداث تونس ومصر الحالية، المأزق الذي تعاني منه الحركات الإسلامية «الحاكمة»، تحت عباءة أمراء السعودية وقطر والصدر الأعظم وتعليمات وتوصيات المرشد الأكبر في البيت الأبيض. هذه الحركات وصلت الى الحكم عندما توّجها الإعلام الغربي والخليجي وغذاها المال والدعم السياسي في قيادة المرحلة الأولى من الثورات العربية. وهي وصلت تحت شعارات طموحات شعبية بالحرية والعدالة والكرامة الوطنية. وها هي بعد سنة وأقل، في موقع المتهم، الذي ينتفض بوجهه أبطال وجمهور الثورات الأولى تحت الشعارات نفسها، أي الحرية والعدالة والكرامة الوطنية، فيصبح الناظر «من تحت» غير قادر على التفريق بين صورة «المحمدَين» مرسي ومبارك في مصر، ويختلط على فقراء تونس وشبابها ونسائها، صوت الغنوشي مع «بحة» زين العابدين بن علي.../...
إنه استمرار للنظام السابق بحلة جديدة. وعلينا ألا ننسى ليبيا، التي أتى حكامها (الإسلاميون) بواسطة طائرات « الناتو » مصادرين روح الانتفاضة التي بدأت تحت شعار بناء الدولة المدنية الديموقراطية التي قتلتها ديمقراطية فرنسا والناتو... هي ليبيا تغرق في حالة من الفوضى المسلحة وغياب القرار والدولة...
إن وضع الأنظمة المركبة في تونس ومصر وليبيا، سيحرج من يستقوي بهم في الدول العربية الأخرى والذين سيجدون في يوم ما، أن شعر « ابنة خالتهم » الذي كانوا يتغنون به، لم يكن إلا شعرا مستعارا هندسه التحالف الأميركي - الخليجي، بهدف استيعاب الثورات الشعبية في العالم العربي ووأد توجهاتها، نحو بناء الدولة المدنية الديموقراطية، العاملة لتحقيق العدالة الاجتماعية بعيدا من الالتحاق بالسياسة الاقتصادية للرأسمال العالمي. هذا التصور الذي كان سيشكل البديل الحقيقي، لأنظمة القمع والفساد والتبعية التي تحكمت ببلداننا عشرات السنين.
عندما انطلقت الثورات في تونس ومصر أساساً، ومن ثم في الدول العربية الأخرى، لم نقع في وهم الانتصار السريع والتغيير الجذري المباشر.
انطلقنا من معيار الانتماء الاجتماعي والطبقي للفئات الشعبية المنتفضة، والمُشَكِّلة لاستمرار تراكم عشرات السنين من نضال العمال والنساء والشباب والفلاحين والصحافيين والأطباء والمهندسين والمعلمين والطلاب. جملة من النضالات المتفرقة التي دفعت الفئات الشعبية ثمنا كبيرا لها من دمها وحريتها، في عهد الأنظمة القديمة، في إطار توجه للتغيير باتجاه الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية...
وعندما استطاع تحالف « الشرق الأوسط الجديد »، تركيب حالة سياسية متمثلة بما يسمى « الإسلام المعتدل »، ومساعدة هذه الحالة، إن لم نقل تركيبها، للوصول الى السلطة، لم نُصَب بالإحباط، ولم تتراجع ثقتنا باستهدافات التحركات والانتفاضات الشعبية ولا بتقدمية شعاراتها الأساسية. ورفضنا تقييم من أصابهم الإحباط، وفيهم من هو في موقعنا السياسي والفكري، ممن سارعوا للحكم على الثورات بمجملها وكأنها صنيعة الأ ميركيين.
استندنا الى التاريخ الثوري في العالم لإثبات أن الحالات الثورية لا تنتهي دائما بتحقيق أهدافها من المحاولة الأولى، بل ربما تصاب بانتكاسات صعبة تقعد هذه الحالة لسنوات.
نعم لقد كان سقوط الأنظمة القديمة بحد ذاته، حدثا تغييريا بل أكثر من ذلك ضربة لحلفائها الإقليميين والدوليين، بغض النظر عن القوى التي حملها التحالف إياه الى السلطة.
ولذلك، كانت ثقتنا كبيرة، بأن المرحلة الحالية تندرج في خانة المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة ودولها، والقضايا التي تحملها الجماهير العربية، من الحريات والديموقراطية الى العدالة الإجتماعية الى الكرامة الوطنية وفي قلبها استعادة قضية فلسطين، كأساس للصراع الوطني والقومي في المنطقة، وهذه القضايا تتجاوز طبيعة وشعارات الأنظمة الجديدة في تونس ومصر وتتجاوز ايضا بعض القوى المتصدرة لقيادة بعض المعارضات في الدول العربية الأخرى.
ان هذه القوى بطبيعتها، وكما كل الإصوليات الدينية وغير الدينية، غير قادرة على تأمين مناخات الحرية والتطور الديموقراطي، ولذلك، ليس مفاجئا ارتدادها على شعار الحرية نحو شعارات تحرك الغرائز ولا تبني الدولة. لذلك، وضعت « الشريعة » مقابل الشرعية والقانون، أي كل منها في مواجهة الأخرى، ووضعت مفهوم المواطنية، في مواجهة الانتماء المذهبي والديني. وانطلاقا من ذلك، قامت بإجراءات سريعة في مواجهة مكتسبات المرأة والإعلام. كما ضاقت ذرعا باستقلالية القضاء وحرية الصحافة.
وفي محاولات تصديها للأزمة الاقتصادية الاجتماعية، التزمت حدود البرنامج الاقتصادي التابع الذي حملته الأنظمة القديمة، وهذا ليس صدفة، فهذه القوى السياسية ومنذ نشأتها كارتداد على المحاولات الإصلاحية الدينية، تمثل البرجوازية الكومبرادورية بتحالفها مع الإقطاعَين الديني والزراعي في الريف، ولذلك، فليس مفاجئا تنكرها لمصالح الفئات الشعبية الكادحة، وبالتالي كان متوقعا وفي ظروف الأزمة الرأسمالية العالمية، أن تَتَّبع سياسةً تعمق الأزمة الاقتصادية على حساب الفقراء والفئات الوسطى في المجتمع.
وعلى مستوى القضية القومية والوطنية، جاهرت هذه القوى سريعاًً بانتمائها الى التحالف الغربي - الخليجي - التركي، الذي تقوده الولايات المتحدة، وفي ذلك استمرار لسياسة الأنظمة السابقة أيضا. وتكفي في هذا الإطار مراجعة تصريحات الغنوشي عن التطبيع ومحاولة فرضه على الدستور التونسي، وكذلك الإصرار الدائم للنظام المصري الحالي، وبشكل خاص لمرشد «الأخوان المسلمين» و«النظام»، على العلاقة مع أميركا والمحافظة على حسن الجوار والاتفاقيات مع العدو الصهيوني.
وحتى في إطار معركة غزة وانتصارها بفضل صمود شعبها ومقاومتها، لم تنجح محاولات الولايات المتحدة، في تلميع الصورة الوطنية والقومية للنظام المصري، بل انكشفت سريعا محاولات محمد مرسي، صرف هذا الانتصار وتوظيفه في إطار فئوي ضيق وخارج المنحى السياسي الذي يدعم قضية فلسطين...
لقد حاول النظام المصري وعوض الاستفادة من صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته وصمود مقاومته، وعوض الاستفادة من توجيه الانتصار في مواجهة العدو الصهيوني وفرض تنازلات سياسية عليه وعلى راعيه الأساسي الولايات المتحدة الأميركية... حاول استعمال الانتصار والتوكيل الحصري الذي منحته إياه الولايات المتحدة، في مواجهة القوى التي ساهمت في تعزيز صمود غزة فلسطينيا وعربيا، وكذلك، بوعي أو من دون وعي، حاول استعمال هذا الانتصار لتعزيز حالة الانقسام الفلسطيني بخلق حالتين منفصلتين أولاهما غزة وثانيتهما الضفة. كما حاول صرف هذا التلميع لصورته بمحاولة تعزيز إجراءاته القمعية في الداخل واستكمال عملية التفافه على مطالب ثورة الشعب المصري وعلى طموحاته.
مرة جديدة، نجدد الثقة أيضا بأن الحالة الثورية العربية هي حالة مستمرة، حتى لو انتكست محاولاتها الأولى، وها هي جماهير تونس ومصر تؤكد إصرارها على استكمال أهداف الحراك الثوري الأولى، بحراك ثان.
وهذه الثقة لا تقع في فخ الوهم بل ترتقي للمهمة، ونقول بصراحة بأن هذه المرحلة أيضا قد تصاب بانتكاسة، ولكن هذه الانتكاسة، لو حصلت، لن تلغي طبيعة الحالة الثورية ولا استمراريتها، وبالتالي ثقتنا بها.
عامل جديد بدأ يظهر في هذه التحركات، هو أخذ اليسار والقوى الديموقراطية لموقعها في قيادة المرحلة الجديدة. هذا العامل غير المكتمل حتى الآن، عليه الاكتمال والتبلور أيضا في تمييز برنامجه من موقعه الفكري والسياسي، وفي تعزيز تحالفاته على قاعدة الطموحات الشعبية بشكل خاص.
-------------------------------------
* الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني
مجلة أسرار نت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق