العاصمة الجزائرية، المدينة التي حازت جائزة السعفة الذهبية بليما عاصمة البيرو سنة 1956، نظير النمط العمراني الهندسي الرائع، ومظاهر الجمال التي كانت تنطوي عليها آنذاك، حتى أنها صنفت ثاني عاصمة في البحر المتوسط بعد برشلونة.. هي اليوم تشكّل الاستثناء في البحر المتوسط وفي العالم، فهي العاصمة التي تُغلق أبوابها على الساعة السابعة مساءً، وتُجبر سكانها وزوّارها على النوم باكرا.. تجوّلنا في شوارع وأحياء المدينة حتى الساعة الثانية صباحا، لم نعثـر إلا على الظلام والصمت.. لم نعثـر إلا على فضاء موحش يتقاسمه
المتسوّلون وصناع الشرّ وبائعات الهوى.. ولم نعثـر على المدينة في فضاءات الترفيه والتسلية، كقاعات السينما والمسرح والمحلات وقاعات الشاي والحانات.. كل شيء مغلق. فالليل أُريدَ له أن يكون ''خبيثا '' في العاصمة، حتى يكون بضاعة يجب مقاطعتها حسب " الخبر" الجزائرية.
عندما تقف على أبواب العاصمة، في حدود الساعة السابعة مساء، لن تر إلا المظاهر التي يقاطع من خلالها الناس ليل هذه المدينة، فحيثما ولّيت وجهك، في محطات الحافلات والترامواي والمترو، فثمّة حشود بشرية أشبه ما تكون بخلايا النحل تسارع الخطى للالتحاق ببيوتها.. المهم الوصول إلى ديارهم ولا يهمّ كيف، لا يهمّ التزاحم داخل الحافلات والترامواي والمترو، حتى وإن سبّب ذلك صعوبة في التنفس.
المتسوّلون وصناع الشرّ وبائعات الهوى.. ولم نعثـر على المدينة في فضاءات الترفيه والتسلية، كقاعات السينما والمسرح والمحلات وقاعات الشاي والحانات.. كل شيء مغلق. فالليل أُريدَ له أن يكون ''خبيثا '' في العاصمة، حتى يكون بضاعة يجب مقاطعتها حسب " الخبر" الجزائرية.
عندما تقف على أبواب العاصمة، في حدود الساعة السابعة مساء، لن تر إلا المظاهر التي يقاطع من خلالها الناس ليل هذه المدينة، فحيثما ولّيت وجهك، في محطات الحافلات والترامواي والمترو، فثمّة حشود بشرية أشبه ما تكون بخلايا النحل تسارع الخطى للالتحاق ببيوتها.. المهم الوصول إلى ديارهم ولا يهمّ كيف، لا يهمّ التزاحم داخل الحافلات والترامواي والمترو، حتى وإن سبّب ذلك صعوبة في التنفس.
كل شيء مغلق والناس يجتهدون.. في النوم باكرا
يواصل الليل زحفه رويدا رويدا على المدينة، ويتواصل صوت غلق أبواب وستائر محلات المواد الغذائية والفصول الأربعة والمقاهي وصالونات الشاي ومحلات العطور والمطاعم ومحلات ''البيتزا'' والأقمشة والأحذية، ويخفت معها صوت حركة الناس في الشوارع والأزقة والساحات العمومية ومحطات النقل.. أتجوّل من الحراش إلى حسين داي، مرورا بالخروبة وبلكور وساحة أول ماي إلى حسيبة بن بوعلي، وصولا إلى شوارع ديدوش مراد والعربي بن مهيدي ومحمد الخامس والقلب المقدّس، ساحة الشهداء وباب الوادي وبولوغين.. ألتفت، يمينا وشمالا، بحثا عن المدينة في حدود الساعة التاسعة والنصف ليلا، لم أجد إلا شخصا واحدا داخل الترامواي المتوقّف بمحطته بالقرب من الخروبة، فيما خيّم الظلام على المحطة البرية لنقل المسافرين وانقطعت حركة الناس، لأن المحطة ''تصوم'' ليلا عن العمل. بينما كان شارع طرابلس بحسين داي موحشا للغاية، لاسيما بعد أن فقد جاذبيته بسبب شبكة الترامواي، وتحوّل إلى ما يشبه مستنقعا بشعا في حدود الساعة العاشرة، حين أغلقت كل المحلات والمطاعم أبوابها وأسدلت ستائرها. لم نجد على أبواب وشوارع المدينة غير الظلام والصمت، لم نعثـر في بلكور إلا على محل للمواد الغذائية شذّ عن القاعدة، ولم تشفع هناك لا ذهنية الحومة، ولا منطق الأحياء الشعبية، في الإبقاء على أبواب المطاعم ومحلات الملابس و''البيتزا'' والمقاهي مفتوحة، لا شيء على الإطلاق، ''فكل شيء تغيّر، الناس فقدوا الثقة في كل شيء، والخوف لم يغيّر معسكره بعد في بلكور''، يقول علي.
أوهمتنا حركة مرور السيارات وحافلات النقل الحضري، في حدود الساعة الحادية عشر ليلا، أن الحياة مازالت محافظة على كثافتها بقلب العاصمة، ولاسيما شوارع ديدوش والعربي بن مهيدي وحسيبة بن بوعلي والقلب المقدّس و''ميسوني'' وجيش التحرير وزيغوت يوسف، وغيرها، ولكن لم نجد المدينة إلا في أشرطة وأحزمة واسعة من المحلات المغلقة، نزولا عند قانون مقاطعة الليل. هذه المدينة العاصمة التي فتنت ماركس، وألبير كامو، وبيكاسو، وغي دو موباسون، وجاك دريدا، ومحمود درويش وغيرهم، في وقت سابق، تحوّلت إلى ما يشبه المقبرة ليلا، فحتى شارعا ديدوش مراد ـ ميشلي ـ سابقا، والعربي بن مهيدي ـ ديزلي ـ اللذان احتفظا بصورة امتيازية في مخيّلة الجزائريين لمدة طويلة فضّلا مقاطعة ليل العاصمة.
قاعات السينما والمسرح تعادي الليل
في حدود الساعة الحادية عشر والنصف، كانت كل صالونات الشاي مغلقة، مثلها مثل محلات بيع ''البيتزا'' والعطور وألبسة الرجال والنساء والأطفال، إلى محلات الفصول الأربعة والمجوهرات والمقاهي، ''بل وحتى الحانات انخرطت في قانون مقاطعة الليل، فمن أصل أزيد من 03 حانة بقلب العاصمة، لم أعثـر ولو على واحدة بقيت مفتوحة''، يقول مراد. في غمرة ذلك، كانت أبواب قاعة السينما الإفريقي مغلقة، وحالها هو حال القاعات الأخرى كالجزائرية، الموفار، الأطلس، كازينو والثقافة. والمنطق نفسه ينسحب على دُور المسرح، التي تُسدل ستائرها على الساعة التاسعة ليلا، والعروض مقتصرة على قاعة الموفار فقط. كما ليس بوسعك زيارة أي متحف حين يخيّم الليل. ويعترف الروائي الجزائري أمين الزاوي، في إحدى كتاباته عن مدينة الجزائر، أن ''دُور المسرح في عهد بشطارزي وعلالو وغيرهما عاشت عصرها الذهبي، بدليل أن عز الدين المدني التونسي والطيب صديقي المغربي يعترفان بأن العاصمة الجزائرية كانت، من خلال مركزها للدراما الكائن ببرج الكيفان، في السبعينيات، العاصمة المغاربية للمسرح، ومكانا مفضّلا لمواعيد صنّاع الفن الرابع.. فالعاصمة، آنذاك، كانت تنام متأخّرة، لتستيقظ باكرا، بل إن الذين يشيّدون المدن يشيّدون الأحلام، أولا، قبل الأسوار''.
''مقاطعة الليل لإخفاء عجزنا عن إنتاج حاجياتنا''
في الواقع، إن النوم الباكر لعاصمة الجزائر يخفي حقيقة مؤسفة أيضا، يخفي فقرنا وضعفنا في إنتاج حاجياتنا من الصناعات والأزياء التقليدية والمجوهرات والحلويات ومختلف الأطعمة، فليالي مراكش، برشلونة، إسطنبول، تونس وغيرها، حافلة بمختلف الأزياء التي تشدّ إليها السائح بحبائل سحرية سرية. هذا الوضع يطرح أسئلة عديدة عن خلفية تسويق خطاب رسمي عن السياحة، في بلد تنام عاصمته على الساعة السابعة مساء.. مدينة فقدت جاذبيتها وسحرها ليلا.. فقدت تأثيرها على الزائرين القادمين من مدن أخرى ومن دول أخرى، وعجزت عن احتضان حتى الغرباء والمغامرين الفارين من متاعب النشاطات التي تُقام نهارا، وذلك على عكس الخطابات المسوّقة عن السياحة في تونس ومراكش وإسطنبول، والقاهرة، فالناس يعثـرون على القاهرة ليلا ونهارا، كما يعثـرون على إسطنبول ليلا ونهارا.
حتى الحانات والملاهي تطاردها لعنة المسؤولين
لا يعثـر الجزائري على عاصمته ليلا، فالليل ''عدو خبيث'' في أعين الذين زرعوا اليأس، هذا السلاح الذي تُصنع منه كل القنابل الموقوتة، بعد أن حرمت الحشود الشبانية الصاعدة من ليالي العاصمة البهيجة والمسرات والمتع، وأغلقت فضاءات وأماكن الترفيه والتسلية أمام العائلات الجزائرية أيضا، ففضلا عن قاعات السينما والمسرح التي توصد أبوابها ليلا، يستحيل أن تجد أبواب حديقة عمومية مفتوحة ليلا.. حدائق تستقبل الشيوخ والعجائز والنسوة والأطفال والشباب، على نحو ما هو عليه في عواصم مجاورة. فما عدا استغلال هذه العائلات لموسم الصيف للذهاب للشواطئ، وتناول المثّلجات بسطاوالي وبرج الكيفان وغيرها، فإن المناسبة الوحيدة لخروج العائلات للسهر هي الأعراس، لتبقى وسيلة الترفيه والتسلية الوحيدة عند العائلات هذه هي التلفزيون. ما يعني أن الناس في العاصمة يحضّرون أنفسهم للنوم باكرا، على خلاف باقي شعوب عديد من العواصم العربية والأوروبية. لذلك، ما عاد أبناء العاصمة اليوم قادرين على الافتخار بالانتماء للفضاء العاصمي، طالما أنه لم تعد المعالم التاريخية الموجودة بمدينتهم قادرة على إغراء وجذب الزوّار على نحو ما كانت في وقت سابق، مثل مقام الشهيد، السيدة الإفريقية، ولا حتى أشهر الشوارع الموجودة بها، كشارعي ديدوش مراد والعربي بن مهيدي، بل تحوّل ليل العاصمة إلى سجن كبير لا يستجيب لرغبات وتطلّعات الباحثين عن السهرات والملذّات والمتع، على نحو ما يشير إليه نبيل، ذي الثلاثين عاما: ''فكل الحانات والملاهي التي كانت تشتغل ليلا أُجبرت على غلق أبوابها باكرا، فالسلطات دخلت في حملة غلق الحانات منذ قرابة خمس سنوات، فيما تخلّى البعض الآخر عن النشاط لدواعٍ أمنية''.
هذا الوضع قاد شرائح شبانية إلى البحث عن نقاط استقطاب توفّر لهم ما لا يوفّره ليل العاصمة من زهو ومجون وسهرات وملذّات بولايات غرب البلاد، كعين تيموشنت، وهران، سيدي بلعباس ومستغانم.
ويعترف كل المنظّرين للحياة في المدينة أن السياسة المتّبعة في العاصمة تعدّ اعتداءً على أشكال الحياة، اعتداءً على تناقضات المدينة، طالما أن الحياة يمكن تمثيلها بأشكال منكسرة ومنحنية ومسطّحة، مكعّبة ومستطيلة ومستقيمة، وما ينسحب على الحانات ينطبق، أيضا، على المساجد التي تغلق أبوابها، أيضا، في وقت مبكّر من الليل، على عكس ما هو عليه الوضع في عواصم عربية وأوروبية كتركيا.
فالعاصمة الجزائرية، التي حازت خلال الحقبة الاستعمارية، وبالضبط سنة 1956، على جائزة السعفة الذهبية بعاصمة البيرو، ليما، نظير النمط الهندسي المعماري، صنّفها موريتي في صدارة عواصم البحر المتوسط بعد برشلونة، حيث كانت شوارعها ممنوعة على العرب الأنديجان.
ومع إعلان استقلال الجزائر سنة 1962، عرفت العاصمة واحدة من أكبر الهجرات للأقدام السوداء من أوروبيين ويهود، باتجاه فرنسا ودول أوروبية، قدر عددهم بـ350 ألف شخص. وفي أكتوبر 1988 تحوّلت العاصمة إلى مسرح لعديد المظاهرات التي طالب أصحابها بنهاية حكم الحزب الواحد، وكان ذلك بمثابة ربيع الجزائر، الذي كان نقطة تحوّل في التاريخ السياسي للجزائر الحديثة. إلا أن العاصمة مزّقتها الأحداث التي كانت مسرحا لها حتى سنة 1992، لتدخل الجزائر في نفق مظلم، ويبدأ النزول إلى الجحيم مع توالي العمليات الإرهابية. فهل عشرية الإرهاب تلك كان لها مفعولها على الناس من جانب الخوف، وحالت دون خروجهم للسهر ليلا اليوم؟ وهل تلك الحقبة المأساوية لها دور في خلخلة منظومة قيم وعادات الناس وأعادت تشكيلها من جديد؟
''عجز المسيّرين حوّل العاصمة إلى مجرد مراقد''
يجيب البروفيسور محمد طيبي، أستاذ علم الاجتماع، أنه عندما يتوقّف فضاء عمراني عن الحياة المكثّفة فذلك يعني أنه فقد هويته، بسبب تحوّل المكوّن البشري وضعفه وعجزه عن إبداع بدائل حضرية، وهذا ما ينطبق على العاصمة الجزائر. فعزوف الناس عن الحياة الليلية، إذا استثنينا بعض الملاهي، تفسّره عدة عوامل، أهمها السلم الحضري، كما تتدخّل عوامل الثقافة الحضرية المتدهورة، وعجز المؤسسات المسؤولة عن تطوير صناعة المدن التي صار لها علم وعلماء ومختصين. فالمدينة، إذن، لم تعد قادرة على احتواء أهلها وتوفير مقتضيات العيش الحضري المشترك. فكيف للعاصمة أن تنافس مدن المتوسط وإشكالية الوزير المسؤول لا تتجاوز مسألة جمع القمامة؟!
القاهرة تقيم الليل رغم حالة الطوارئ..
ومع أن هناك من يقول إن حالة الطوارئ، التي كانت سائدة في البلاد، هي التي كبحت إرادة الناس في الخروج للسهر ليلا، فإن ملاحظين لا يتردّدون في التساؤل عن أسباب عدم غلق القاهرة لأبوابها ليلا، وهي التي ظلّت وفية لسكانها وزوّارها، رغم حالة الطوارئ التي تسري في البلاد منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. فيما تذهب قراءات أخرى إلى وضع العامل الأمني في صدارة الأسباب التي تحُول دون خروج الناس ليلا في العاصمة، على اعتبار عدد الاعتداءات التي تُرتكب ضد المواطنين في الشوارع في كل مرة، بدليل أنه لا يمر يوم إلا وسجّلت مصالح الأمن حالات اعتداء في شوارع العاصمة. وتفيد شهادات مواطنين بباب الوادي أن هناك مناطق ليس بوسع أيّ كان أن يدخلها ليلا، مثل الكاريار وتريولي، وكذا الحراش، وباش جراح. بل يتذكّر سكان العاصمة الأحداث والمشاهد الهوليودية الاستعراضية لمجموعات شبانية تستعمل الهراوات والعصي وسيوف الساموراي و''السينيال''، التي كانت عدة أحياء مسرحا لها ضد أحياء أخرى.
ليل يستثمره المتسوّلون وبائعات الهوى وصنّاع الشر
على رغم أن وسائل النقل، مثل المترو والترامواي وحافلات النقل الحضري لشركة ''ايتوزا''، تشتغل حتى منتصف الليل، إلا أنه بوسعك أن تقف على تلك العربات وتلك الحافلات التي تنتظر من يركبها دون جدوى، لأن الناس يستعدون للنوم باكرا، يستعدون لمقاطعة ليل العاصمة، ولو أن بعض الآراء المنعكسة من محيط ولاية الجزائر تفيد أن الوالي كان تحدّث عن إمكانية إلزام شركة النقل الحضري (ايتوزا) على العمل إلى غاية الصباح، والفكرة نفسها، أكّدها الوزير الأول، عبد المالك سلال، حين أشار، في إحدى تدخّلاته، إلى أنه سيعيد الاعتبار للعاصمة من جانب جعل النشاط يتواصل بها ليلا. وعلى أي حال، فإن ليل العاصمة وجدناه، في حدود الساعة الواحدة والنصف صباحا، فضاء مخيفا، تتقاطع فيه طموحات النساء اللواتي يتاجرن بأجسادهن مع طموحات عشرات المتسوّلين، من نساء وأطفال وشباب، ممن كانوا يتنافسون فيما بينهم للظفر بقطعة كارتون بساحة الشهداء.. فضاء بلون ليل موحش يستثمره صنّاع الشر بامتياز، أيضا، ممن اعتادوا على الاعتداء على الناس، وممن يبحثون عن ضحايا جدد.
عاصمتنا ضمن العواصم الأخيرة في العالم..
هذه هي عاصمتنا، التي صنّفتها صحيفة ''الإيكونومست'' الإنجليزية، يوم 15 أوت الفارط، في المرتبة 135 قبل عاصمة بنغلاديش، مدينة دكة، واستندت الصحيفة في تصنيفها إلى جملة من المعايير، بينها الاستقرار الاجتماعي، لاسيما نسبة معدّل الإجرام، والبنية التحتية المتمثّلة في مختلف المرافق التي تضمن الرفاه للسكان، وخدمات النقل، والصحة، والحياة الثقافية والمحيط بشكل عام، مشيرة إلى أنها عاصمة تفتقر لأماكن وفضاءات الترفيه والتسلية بشكل عام.
المصدر جريدة الخبر الجزائرية
مجلة أسرار نت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق